بغداد – كشفت تقارير اقتصادية حديثة أن العراق يتصدر الدول العربية في نسبة التوظيف الحكومي مقارنة بعدد السكان، متجاوزاً مصر والسعودية معاً، رغم أن مجموع سكانهما يتجاوز 150 مليون نسمة، أي أكثر من ثلاثة أضعاف سكان العراق.
ووفقاً للخبير الاقتصادي زياد الهاشمي، فإن “الوظيفة العامة في العراق لم تعد وسيلة لتقديم الخدمة أو تطوير الاقتصاد، بل تحولت إلى أداة سياسية لشراء الولاءات وترسيخ النفوذ الحزبي والانتخابي”، مؤكداً أن ما يجري هو “حالة مرضية مزمنة تضرب أساس الاقتصاد العراقي منذ عام 2003”.
الأرقام صادمة: أكثر من 5 ملايين موظف حكومي في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 46 مليوناً، أي ما يعادل 11% من إجمالي السكان، في حين تبلغ النسبة في مصر 5%، وفي السعودية 3%، وفي الجزائر 2% فقط. هذه المفارقة تكشف أن التوظيف في العراق لم يعد وسيلة تشغيل بل أصبح جزءاً من منظومة الفساد السياسي والإداري التي تستهلك الدولة من الداخل.
▪ البطالة المقنّعة.. رواتب بلا إنتاج
تقديرات وزارة التخطيط تشير إلى أن أكثر من نصف الوظائف الحكومية لا تسهم بأي شكل في الناتج المحلي، فيما يصف مختصون هذا الوضع بـ”الشلل الإداري المقنع”، حيث يتقاضى آلاف الموظفين رواتب من دون أداء فعلي أو مهام محددة. وتبلغ حصة الرواتب من الموازنة أكثر من 60% من إجمالي الإنفاق العام، ما جعل الدولة عاجزة عن تمويل المشاريع التنموية أو تحسين البنى التحتية.
ويقول الهاشمي إن “الوظيفة العامة أصبحت شكلاً من أشكال الإعالة الجماعية، وليست وسيلة لبناء اقتصاد منتج. فالحكومة تشتري الاستقرار الاجتماعي بالرواتب، لا بالفرص الحقيقية”.
▪ ديون تتضخم وموارد تُهدر
التوسع غير المنضبط في التعيينات أدى إلى تضخم الدين العام الذي تجاوز 97 تريليون دينار داخلياً وأكثر من 34 مليار دولار خارجياً، وفق بيانات وزارة المالية. الجزء الأكبر من هذه الديون يُستخدم لتغطية الرواتب والتقاعد، ما يعني أن الدولة تستدين لتدفع أجوراً لوظائف غير منتجة.
ويحذر خبراء من أن استمرار هذه السياسة يجعل الموازنة رهينة لأسعار النفط، بحيث يكفي أي هبوط في الأسعار لشلّ قدرة الحكومة على الإيفاء بالتزاماتها المالية، ما يهدد الأمن الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
▪ إصلاحات غائبة وفساد متجذر
ورغم وعود الحكومات المتعاقبة بإصلاح الجهاز الإداري، إلا أن الواقع لم يتغير. فكل حكومة جديدة تضيف أرقاماً جديدة إلى قوائم التعيينات لأغراض انتخابية، بينما تتآكل الموارد العامة تحت وطأة المحسوبيات والصفقات السياسية.
ويقول أحد الباحثين في الاقتصاد السياسي إن “الوظيفة في العراق تُمنح اليوم كمكافأة على الولاء أو كترضية عشائرية، لا بناءً على الكفاءة، والنتيجة جهاز إداري مترهل يستهلك الموازنة ويشل الدولة”.
▪ مقارنة تفضح الخلل
في الولايات المتحدة، التي يبلغ اقتصادها أضعاف الاقتصاد العراقي بعشرات المرات، لا يتجاوز عدد الموظفين الحكوميين 24 مليوناً، أي نحو 7% من السكان، مع نظام صارم لقياس الأداء والإنتاجية. أما في العراق، فالأرقام تتضخم بلا تقييم ولا رقابة، لتتحول الدولة إلى أكبر رب عمل بلا مردود حقيقي.
▪ طريق الإصلاح يبدأ من السياسة
ويرى الاقتصاديون أن الحل لا يكون بالتقشف، بل بإعادة هيكلة شاملة للجهاز الحكومي، تتضمن تحويل الموارد إلى القطاعات الإنتاجية مثل التعليم والطاقة والزراعة، وخلق فرص عمل حقيقية في القطاع الخاص. لكن كل ذلك، كما يقول الهاشمي، “يحتاج إلى قرار سياسي شجاع يفصل بين الوظيفة العامة والزبائنية السياسية، ويعيد تعريف الدولة ككيان يخدم المواطن، لا كغنيمة يتقاسمها المتنفذون”.
اليوم، بينما تتباهى الحكومة بتعيين الآلاف شهرياً، تتراجع الخدمات وتتعطل المشاريع وتغرق الموازنات بالعجز، فيما يدفع المواطن ثمن نظام جعل من الوظيفة العامة وسيلة فساد منظم، لا أداة لبناء الدولة.
