بغداد – وسط تصاعد التوتر الإقليمي واقتراب رياح الحرب، عاد ملف الأموال الإيرانية في العراق إلى الواجهة، كاشفًا عن حجم الارتباط السياسي والاقتصادي بين بغداد وطهران، وعن مدى عجز الطبقة الحاكمة في العراق عن إدارة استقلالها المالي والسيادي بعيدًا عن ضغوط الجوار ومصالح الأحزاب المتنفذة.
ففي الوقت الذي تعتبر فيه طهران أن ما يُعرف بـ”آلية الزناد” التي فعّلتها الدول الغربية ضدها مجرد تهديد نفسي وإعلامي، يؤكد الأمين العام لغرفة التجارة المشتركة بين إيران والعراق، جهانبخش سنجابي شيرازي، أن بلاده لا تواجه أي خطر فعلي على أموالها داخل البنوك العراقية، ما يعني أن مليارات الدولارات الإيرانية ما زالت خارج أي رقابة فعلية من الدولة العراقية.
ويرى مراقبون أن هذا التصريح يكشف مدى ضعف السيادة الاقتصادية للعراق، إذ تحوّل البلد إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، فيما تكتفي الطبقة السياسية بالصمت، حفاظاً على مصالحها المرتبطة بطهران. فالأموال الإيرانية في العراق، التي تتراوح بين 9 و11 مليار دولار وفق تقديرات رسمية، أصبحت رمزاً لعلاقة غير متكافئة تُمكّن إيران من استخدام موارد العراق دون حسيب أو رقيب.
ويشير سنجابي إلى أن “الغرب يخوض حرباً معرفية ضد إيران”، لكن المراقبين يؤكدون أن ما يجري في الواقع هو حرب نفوذ تمتد إلى الداخل العراقي، حيث تحولت المصارف والمؤسسات المالية إلى أدوات بيد أحزاب موالية للخارج، تستخدم أموال الدولة لتسديد فواتير سياسية، لا لخدمة المواطن العراقي.
كما يسلّط الملف الضوء على تواطؤ حكومات المحاصصة التي سمحت بتدفق أموال بمليارات الدولارات نحو إيران، في وقت يعاني فيه العراقيون من انقطاع الكهرباء وارتفاع الأسعار وضعف الخدمات. فبدلاً من توجيه هذه الأموال نحو مشاريع تنموية، تُستخدم لتسديد ثمن الغاز والكهرباء الإيرانيين، بينما يبقى الشعب تحت رحمة تقنين الطاقة والديون المتراكمة.
ويرى محللون أن منح الولايات المتحدة تراخيص مؤقتة للعراق لاستخدام جزء من الأموال الإيرانية لشراء سلع إنسانية لا يغيّر من جوهر المشكلة، لأن النظام السياسي في بغداد بات رهينة للنفوذ الخارجي، يتعامل مع مقدرات الدولة كملف تفاوضي وليس كأصل وطني.
وفي ظل هذا الواقع، يتنامى الغضب الشعبي من استمرار الحكومات المتعاقبة في إدارة الملفات الاقتصادية بعقلية التبعية والفساد، إذ لم تعد الحدود بين المال العام والمال السياسي واضحة، وأصبحت أموال العراق رهينة إرادات متصارعة بين واشنطن وطهران، يدفع ثمنها المواطن البسيط.
المشهد اليوم يعكس دولة منزوعة القرار، تدار بصفقات المحاصصة لا بسياسات الدولة، فيما يتحدث المسؤولون الإيرانيون بثقة عن “أموال آمنة في العراق”، وكأنهم يتحدثون عن خزائنهم الخاصة. هكذا يُختصر حال السيادة العراقية بين طبقة سياسية فاسدة، وأموال مجمّدة لم تعد للعراقيين فيها كلمة .
![]()
