بغداد – بينما يُفترض أن تحمي الدولة أبناءها من شبكات الاستغلال والتجنيد غير المشروع، تكشف قضية العراقيين الذين وجدوا أنفسهم يقاتلون في جبهات روسيا وأوكرانيا حجم الفساد والتقصير داخل مؤسسات الدولة، التي اكتفت بالصمت بينما يُباع شبابها في أسواق الحروب الخارجية.
من موسكو إلى دونباس، تتقاطع خيوط الفقر والبطالة مع شبكات السمسرة والاحتيال، لتكشف واقعاً اقتصادياً وأمنياً هشاً سمح بتهريب آلاف الشباب عبر وسطاء وشركات وهمية من بغداد والبصرة والنجف، تحت غطاء “عقود عمل” سرعان ما تحوّلت إلى تذاكر ذهابٍ بلا عودة إلى جبهات القتال.
النائب عامر الفايز حاول تبرير ما حدث قائلاً إن “انخراط بعض الشباب العراقي في الحرب الروسية الأوكرانية تم بمحض إرادتهم نتيجة إغراءات مالية”، لكنّ هذا التبرير لم يُقنع الشارع العراقي، الذي يرى أن الدولة هي المسؤول الأول عن ترك أبواب الفقر مفتوحة، وعن تجاهل مافيات التجنيد التي تعمل تحت أنظار السلطات.
تقارير صحفية تؤكد أن ما لا يقل عن خمسة آلاف عراقي تم تجنيدهم منذ عام 2022 عبر وسطاء محليين، بينما تتحدث مصادر روسية عن “عشرات فقط”. وبين تضارب التصريحات وتبادل الإنكار، يضيع الشباب العراقي بين نيران الحرب وفساد الإدارات التي تقاعست عن حمايتهم.
موقع Amwaj Media كشف أن بعض العراقيين جرى استدراجهم عبر عقود “وظائف مدنية” في روسيا، قبل أن يُجبروا على حمل السلاح. صحيفة عكاظ السعودية نقلت نداءات استغاثة من مقاتلين عراقيين يطلبون إعادتهم إلى البلاد بعد أن “صودرت جوازاتهم ووُضعوا في الخطوط الأمامية”، دون أي ردّ رسمي من الحكومة العراقية.
اللواء المتقاعد جواد الدهلكي كشف ن “منظمة فاغنر الروسية جنّدت عشرات العراقيين عبر وسطاء داخل البلاد، بعد إغرائهم بالمال والإقامة وحتى الجنس”، مؤكداً أن “الظاهرة تحوّلت من استغلال اقتصادي إلى مشروع سياسي تديره جهات داخلية وخارجية في ظلّ صمت حكومي مطبق”.
ويشير مراقبون إلى أن الحكومة تتجاهل عمداً فتح تحقيق شامل، خشية أن تكشف خيوط الفساد التي تربط شبكات التجنيد بمسؤولين وأحزاب نافذة تمتلك علاقات مالية وسياسية مع موسكو.
في تطوّر خطير، كشفت مصادر أوروبية أن نائباً عراقياً يخضع لتحقيقات بتهم تتعلق بتمويل عمليات تجنيد لمقاتلين لصالح روسيا، عبر شركات وهمية في أوروبا الشرقية. هذه التحويلات – بحسب التحقيقات – استخدمت لتغطية نفقات سفر وتجنيد لمئات العراقيين، في واحدة من أكثر القضايا حساسية دبلوماسياً منذ عام 2022.
ورغم هذا، لم تُصدر الحكومة العراقية أي بيان يوضح موقفها، بل اكتفت بالتأكيد على أن “المشاركة تمت بإرادة شخصية”، وهو ما اعتبره ناشطون “تبريراً رسمياً للتجارة بالبشر تحت غطاء قانوني”.
في المقابل، أصدرت محكمة النجف في أيلول الماضي حكماً بالسجن المؤبد على أحد المتورطين بتهمة “تجنيد وإرسال مقاتلين لصالح روسيا”، وهو أول حكم من نوعه، صنّف القضية ضمن جرائم الاتجار بالبشر، في إشارة إلى أن القضاء بدأ ينظر إلى الملف من زاوية أمنية أوسع.
إلا أن هذا الحكم، وفق خبراء، لا يكفي في ظلّ غياب مساءلة للجهات الرسمية التي سمحت بخروج هؤلاء عبر منافذ الدولة، ولا للسفارات التي تجاهلت نداءات الاستغاثة.
الملف بات فضيحة سياسية واقتصادية وأمنية؛ فبينما تُغري شبكات التجنيد الشباب برواتب تصل إلى 3 آلاف دولار شهرياً، يعجز الداخل العراقي عن تأمين أبسط فرص العيش، مما يجعل الفقر هو المحرك الأكبر في تجارة الدم هذه.
مراكز الدراسات الدولية حذّرت من أن العراق تحوّل إلى بيئة خصبة لتجنيد المرتزقة بسبب ضعف الرقابة وارتفاع البطالة، إذ تستغل جهات خارجية هشاشة الوضع لتمرير شبكات تعمل عبر الإنترنت والدارك ويب لتجنيد شبابٍ من الطبقات الفقيرة.
وبينما تتحرك العواصم الأوروبية للتحقيق في غسل الأموال وتمويل التجنيد، ما زالت بغداد الرسمية تتفرج، كأنّ دماء العراقيين في أوكرانيا لا تعنيها.
إنّ ما يجري اليوم ليس مجرد قضية إنسانية، بل ملف فساد متكامل يفضح عجز الدولة عن حماية مواطنيها من شبكات الاتجار بالبشر، وتواطؤ بعض الجهات النافذة التي استفادت من تحويل الشباب إلى سلعة في حربٍ لا ناقة للعراق فيها ولا جمل.
ويبقى السؤال الذي يردده العراقيون من خلف الأسلاك والثلوج البعيدة:
“لماذا ذهبوا؟ من أرسلهم؟ ومن استفاد؟”
أما الجواب، فما زال مدفوناً في دهاليز الفساد والسكوت الرسمي الذي جعل العراقيين وقوداً لحروب الآخرين.
![]()
