بغداد – في مشهد يعكس اختلال السيادة وضعف القرار العراقي، تتجه الولايات المتحدة إلى تطبيق استراتيجية جديدة في العراق تقوم على مبدأ “داعش أولًا”، في حين تواصل السلطات العراقية الرضوخ للنفوذ الخارجي وتجاهل ملفّات الفساد والسلاح المنفلت التي تمزّق البلاد من الداخل.
فبحسب مصادر أمريكية، أعادت واشنطن تعريف وجودها العسكري ليقتصر على مكافحة تنظيم داعش فقط، متجاهلةً فوضى الميليشيات وتغلغل النفوذ الإيراني وسوء إدارة الحكومة العراقية، وهي ملفات تمسّ جوهر الأمن الوطني. مسؤول أمريكي أوضح أن “مهمتنا ليست في العراق بل ضد تنظيم إرهابي”، في إشارة تُظهر تراجع الثقة بقدرة الدولة العراقية على فرض سلطتها.
وفي الوقت الذي تنقل فيه واشنطن مركز ثقل قواتها إلى إقليم كردستان بعيداً عن بغداد والأنبار، يبرز التساؤل: أين دور الحكومة في إدارة أمنها الداخلي؟ فقرار تقليص الوجود الأمريكي في مناطق الوسط والجنوب جاء تحاشياً لاحتكاك مع الفصائل المسلحة التي تتحرك بحرية تامة داخل المدن دون محاسبة، وسط تواطؤ رسمي وصمت حكومي مريب.
التقارير الأمنية تكشف أن هذا التموضع الجديد يهدف لحماية القوات الأمريكية من ضغط الميليشيات أكثر مما يهدف لمساندة العراق في بناء منظومة أمنية متماسكة، بينما تواصل السلطات العراقية الاعتماد على الدعم الخارجي بدل إصلاح مؤسساتها الأمنية التي نخَرها الفساد والمحاصصة.
ويرى مراقبون أن الشراكة بين واشنطن وبغداد تحوّلت إلى علاقة شكلية بلا مضمون سيادي، إذ تُدار الملفات الكبرى بقرارات أمريكية، فيما تغرق الحكومة العراقية في صراعات داخلية ومنافع حزبية. حتى البرلمان، الجهة المفترض بها تقنين التعاون الأمني، يغيب عن المشهد تماماً، تاركاً القرارات المصيرية تمرّ بلا مساءلة.
الولايات المتحدة، وفق مراقبين، تتصرّف ببراغماتية باردة؛ فهي تفضّل التعامل مع “داعش” كأولوية وحيدة، حتى لو تطلب الأمر التنسيق غير المباشر مع دمشق أو قوات سوريا الديمقراطية، بينما تظل بغداد خارج حسابات التأثير الحقيقي. أما الحكومة العراقية، فمستمرة في التذرّع بخطر الإرهاب لتبرير فشلها في ضبط الأمن الداخلي ومحاربة الفساد الإداري والمالي.
الخبراء يحذرون من أن سياسة “داعش أولًا” ليست شراكة بقدر ما هي اختبار لمدى هشاشة الدولة العراقية. فغياب استراتيجية وطنية مستقلة، وتراكم السلاح بيد الفصائل، وافتقاد الرقابة القضائية، كلها مؤشرات على أن بغداد لم تعد تملك قرارها الأمني، بل أصبحت منطقة نفوذ تُدار من الخارج وتُنهب من الداخل.
وفي ظل هذا الواقع، يتساءل الشارع العراقي:
كيف يمكن مواجهة داعش في ظل دولة عاجزة عن مواجهة فسادها؟
وكيف يمكن الحديث عن سيادة، فيما القرارات الأمنية والاقتصادية تُصاغ خارج حدود العراق؟
بوضوح، الفشل المؤسسي والفساد المستشري جعلا من العراق ساحة لتجارب واشنطن الأمنية، وليس شريكاً متكافئاً في محاربة الإرهاب. ومع بقاء الملفات الكبرى – السلاح المنفلت، النفوذ الخارجي، الفساد المالي – مؤجّلة، فإن “داعش أولًا” قد يكون مجرّد عنوان لمرحلة جديدة من الاستنزاف السياسي والأمني، حيث تدفع دماء العراقيين ثمن عجز حكومتهم وصمتها المزمن .
![]()
