بغداد – تصاعدت الإشارات السياسية والأمنية في بغداد خلال الأيام الماضية، ما أعاد فتح ملف الفصائل المسلحة من زاوية جديدة تحمل في طياتها احتمال انتقال واشنطن من لغة الضغوط الدبلوماسية إلى إجراءات أكثر حسمًا — خطوة قد تكشف عن هشاشة مؤسسات الدولة وبواطن الفساد داخلها.
التوقيت كان ذا مغزى: مكالمة لاذعة لوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ووصول مبعوث أمريكي جديد إلى بغداد، ما دفع أوساطًا سياسية وأمنية إلى التحفّظ والتحذير من أن المرحلة المقبلة قد تشهد «عملية ضبط» مترابطة سياسياً وميدانياً على الأرض العراقية. هذا التزامن لم يُقَرأ على أنه مصادفة بروتوكولية فحسب، بل كإشارة إلى تغيير مقصود في مقاربة واشنطن تجاه الفصائل.
ويحذر الخبير الأمني والسياسي محمد علي الحكيم، في حديثه لـ«بغداد اليوم»، من أن أي خيار عسكري مباشر لنزع سلاح الفصائل أو تفكيكها بالقوة «قد يمسّ سيادة العراق ويهدد الاستقرار الداخلي والإقليمي». حكمه هذا يعكس قلقًا واسعًا داخل دوائر القرار من أن تفضي الإجراءات المتهوّرة إلى إعادة إنتاج أزمات بدلاً من حلها.
بحسب البيان الأمريكي، حملت مكالمة روبيو لهجة صريحة تجاه «ضرورة نزع سلاح الفصائل التي تقوّض سيادة العراق وتهدّد حياة ومصالح الأمريكيين والعراقيين». وفي نفس اللحظة وصل المبعوث مارك سافايا إلى بغداد، ما فسّره كثيرون كخطوة عملية مكملة للضغط السياسي: تزامن دبلوماسي — ميداني قد يمهّد لمرحلة متعددة المسارات من الضغوط والتنسيق.
مراقبون سياسيون وأمنيون يقرأون وجود خطة أمريكية محتملة قائمة على أدوات مترادفة: ضغوط دبلوماسية اقتصادية، تفاهمات مع أطراف عراقية، محاولات حصر شبكات التمويل، وربما إجراءات أمنية دقيقة ومحدودة إذا باءت الوسائل السياسية بالفشل. ويذكر هؤلاء تجارب إقليمية سابقة استخدمت فيها واشنطن مزيجًا من الحوافز والقيود لخفض نفوذ قوى مسلحة خارج إطار الدولة.
المخاوف لا تقتصر على السيناريو العسكري وحده، بل تمتد إلى آفاق أوسع تتعلق بتبعات جيوسياسية: أي مواجهة داخل العراق قد تتسع لتشمل ساحات إقليمية أخرى، مما يفتح الباب أمام تصعيدات تدفع البلد لمنحى أخطر. وفي المقابل، تُظهر الأزمة الداخلية تباينات جوهرية في تعريف شرعية الدولة واحتكار السلاح؛ فبعض القوى تعتبر السلاح وسيلة حماية لوجودها السياسي والاجتماعي، بينما تؤكد الحكومة أن احتكار القوة شرط لبناء دولة فعّالة.
ويشير محللون إلى أن الحلّ الأكثر فاعلية يجب أن يكون تدريجيًا ومؤسسيًا: حوار وطني شامل، إطار قانوني واضح، برامج لإعادة الإدماج الأمني والمؤسسي، وحوافز اقتصادية وسياسية تحول الفصائل إلى كيانات مدنية أو تنظم إدماجها داخل مؤسسات الدولة. أي تعجّل في الحل الأمني بالقوة، بحسبهم، يعرّض البلاد لمخاطر إعادة تموضع الصراع وتوسيع رقعته.
في المشهد الحالي، يظل السؤال الأهم: هل ستتحوّل جهود واشنطن إلى إعادة ضبط تستنسخ نماذج إقليمية سابقة تُفرّط بالحلول السياسية مقابل أدوات أمنية سريعة؟ أم ستفضي الضغوط إلى تفاهمات عراقية-إقليمية تضمن ضبط السلاح عبر آليات وطنية ومؤسساتية؟ الجواب، كما يرى المراقبون، مرهون بقدرة الحكومة العراقية على المبادرة بصياغة خارطة طريق وطنية لإدارة السلاح تضم مؤسسات قضائية وأمنية واضحة وبرامج إعادة إدماج وحوار إقليمي يحمى العراق من أن يتحوّل إلى ساحة قرار خارجي يعيد رسم خرائط القوة داخله.
![]()
