بغداد – لم تعد أزمة المياه في العراق مجرّد قضية بيئية أو موسمية، بل تحوّلت إلى أزمة وجودية تكشف فشل الدولة وفساد إدارتها لواحد من أهم الموارد الحيوية. فوفقاً لتقارير رسمية، انخفض الاحتياطي المائي للبلاد إلى ما بين 5 و10 مليارات متر مكعب فقط، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من ثمانية عقود، فيما تحذر الجهات الفنية من أن بعض المحافظات قد تفقد مياه الشرب خلال السنوات القليلة المقبلة.
المفارقة الصادمة أن العراق، الذي كان يُعرف يوماً بـ”أرض الرافدين”، يمتلك طاقة خزنية تصميمية للسدود تفوق 90 مليار متر مكعب، لكن ما هو متاح فعلياً لا يتجاوز ثلث ذلك الرقم. أما واردات دجلة والفرات فقد تراجعت إلى أقل من 40% من معدلاتها التاريخية، فيما اكتفت وزارة الموارد المائية بإطلاق وصف “عام شحيح” على 2025، دون أن تقدّم حلولاً عملية تنقذ ما تبقّى من المياه.
ويرى مختصون أن المشكلة الحقيقية ليست في ندرة الموارد فحسب، بل في الفساد وسوء الإدارة، إذ تُهدر ملايين الأمتار المكعبة يومياً بسبب شبكات متهالكة ومشاريع صيانة وهمية صرفت عليها مليارات الدنانير دون نتائج تُذكر. وتشير تقارير ميدانية إلى أن أكثر من 60% من مياه الري تضيع قبل أن تصل إلى الأراضي الزراعية، بينما تستمر الحكومة في الاعتماد على قنوات وسواقي بُنيت قبل نصف قرن دون تحديث أو رقابة.
الخبير المائي مرتضى الجنوبي يؤكد أن البلاد “تقترب من مرحلة فقدان مياه الشرب في بعض المحافظات”، مضيفاً أن “الخطط الحكومية لا تتجاوز التصريحات الإعلامية، بينما تظل شبكات الإسالة في حالة انهيار”. أما الخبير عادل المختار، فيشير إلى أن “التفاوض مع تركيا وإيران يجري بلا رؤية مؤسساتية، ما جعل العراق رهينة للمصالح السياسية أكثر من كونه طرفاً يطالب بحقوقه المائية”.
لكن التواطؤ الداخلي فاقم الكارثة. فالمشاريع التي أعلنتها الحكومة تحت عنوان “خطة الطوارئ المائية” تحولت إلى واجهة إعلامية لصفقات الفساد، بحسب ناشطين بيئيين، إذ لم يُنجز منها سوى القليل، وبوتيرة بطيئة لا تتناسب مع خطورة الوضع.
وفي المحافظات الجنوبية، يظهر وجه الأزمة القاسي. فقد وصلت ملوحة شط العرب إلى مستويات غير مسبوقة، وأجبرت آلاف العائلات في البصرة والفاو والقرنة على الهجرة من أراضيها، بعدما باتت المياه المالحة غير صالحة حتى لري النخيل. المهندس الزراعي الذي تحدث لـ”بغداد اليوم” قال بمرارة: “مياه شط العرب لم تعد صالحة للحياة، لا للزراعة ولا للشرب، وما يحدث اليوم نتيجة سنوات من الإهمال والسرقات تحت غطاء المشاريع الوهمية”.
الخبراء يجمعون على أن الأزمة مؤسسية وليست طبيعية. فالحكومات المتعاقبة تعاملت مع ملف المياه كمشكلة مؤقتة، بينما هي في الحقيقة قضية أمن قومي. ويؤكد الجنوبي أن “العراق بحاجة إلى خطة وطنية طارئة لإدارة الموارد المائية، تشمل التحلية، وتقنيات الري الحديثة، وإصلاح شبكة الإرواء، بدل الترقيع الإعلامي الذي أصبح سمة النظام الإداري الحالي .
![]()
