بغداد – تترنح الموازنة العراقية فوق برميل نفط يتهاوى سعره يومًا بعد آخر، فيما تواصل الحكومة تجاهل صفارات الإنذار التي تطلقها الأسواق العالمية. فمع هبوط خام البصرة الثقيل إلى 59.59 دولارًا والمتوسط إلى 60.74 دولارًا، يبدو أن البلاد مقبلة على عجزٍ مالي غير مسبوق، فيما تتراكم الديون وتُهدر الإيرادات بلا تخطيط أو رقابة.
الاقتصادي نبيل المرسومي حذّر من أن العراق يعيش لحظة “السقوط الحر”، داعيًا إلى تجميد البذخ الانتخابي وتشكيل خلية أزمة عاجلة. وأضاف أن “كل دولار يُهدر في الحملات الانتخابية هو دينٌ جديد على المواطن”، مشيرًا إلى أن استمرار هذا النهج سيقود إلى ارتفاع الدين الداخلي إلى مستويات خطيرة تهدد الرواتب والاستثمارات معًا.
المرسومي وصف ما يجري بأنه أزمة هيكلية لا مالية فقط، مؤكدًا أن الدولة فقدت قدرتها على إدارة الصدمات بعد أن ربطت كل مفاصلها بسعر البرميل الواحد.
من جانبه، أوضح الباحث نبيل جبار التميمي أن “النفط في العراق لم يكن يومًا قطاعًا اقتصاديًا مستقلاً، بل أداة سياسية تُدار بالمزاج والظروف”. وأشار إلى أن عقود التراخيص التي بدأت بعد عام 2009 لم تنتج تنويعًا اقتصاديًا حقيقيًا، بل أنتجت تضخمًا في الجهاز الحكومي وإنفاقًا عشوائيًا على حساب التنمية.
وبلغة الأرقام، يشكّل النفط أكثر من 90% من الإيرادات العامة ويغطي 95% من تمويل الموازنة، ما يجعل أي هزة في السوق العالمية تتحول إلى زلزال داخلي يضرب معيشة المواطنين.
أما الخبير منار العبيدي فاعتبر أن التراجع الحالي “ليس أزمة أسعار، بل اختبار لبنية الدولة الريعية”، مضيفًا أن الحكومة تفتقر إلى صندوق سيادي، ونظام ادخار، وآلية تحوّط ضد الأزمات، مما يجعلها تلجأ دائمًا إلى حلول ترقيعية قصيرة الأمد مثل تأجيل الرواتب أو رفع الدعم عن الوقود.
العبيدي شبّه المشهد العراقي بـ”فنزويلا قبل الانهيار”، مؤكدًا أن الاعتماد على الاقتراض في كل أزمة سيقود إلى انهيار العملة وتآكل القدرة الشرائية إن لم تُتخذ إصلاحات جذرية.
في المقابل، يرى محللون أن الفساد الحكومي المستشري هو ما يضاعف أثر الأزمات الاقتصادية، إذ تُهدر مليارات الدولارات على مشاريع وهمية ورواتب مزدوجة وموازنات انتخابية، بينما تُترك القطاعات الإنتاجية في حالة موت سريري.
ففي حين تبني الدول صناديق سيادية وتحمي فوائضها، ينشغل المسؤولون في بغداد بـ”الولائم الانتخابية” وشراء الولاءات السياسية. وكلما تراجعت الأسعار، يسارعون إلى تحميل المواطن كلفة العجز عبر رفع الضرائب وتقليص الدعم.
ويجمع الخبراء على أن العراق يعالج الأزمات بالأدوات التي أنتجتها، وأن أي ارتفاع مؤقت في الأسعار يُستغل لإعادة الإنفاق العشوائي، بدل أن يكون فرصة لبناء احتياطي يحمي الدولة في فترات الانكماش.
إنها دائرة فسادٍ مغلقة: تُهدر الأموال في الرخاء، وتُفرض التقشفات في الأزمات، فيما يظل المواطن الحلقة الأضعف.
ومع اقتراب الموازنة الجديدة، يطرح السؤال نفسه:
هل ستواجه الحكومة الحقيقة وتعلن فشل سياساتها الريعية؟ أم ستواصل الإنكار حتى ينهار ما تبقى من هيكل الدولة المالي؟
الجواب، كما يقول المرسومي، ليس في سعر النفط، بل في نزاهة القرار — لأن من يبدّد الثروة في أوقات الوفرة، لا يمكنه إدارة الأزمة في أوقات العجز.
![]()
