بغداد – في مشهدٍ غير مسبوق، تحوّل ما كان يُعرف بـ“القرارات الزرقاء” داخل أروقة القضاء الانتخابي إلى وثائق علنية تهزّ الوسط السياسي العراقي، بعدما قررت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات نشر قرارات الطعون والردود كاملةً بالأسماء والوقائع. خطوةٌ وُصفت بأنها تاريخية في ظاهرها، لكنها في جوهرها كشفت عن عمق الفساد السياسي والإداري الذي يتغلغل في العملية الانتخابية منذ سنوات.
فما كان يُدار سابقاً في الغرف المغلقة أصبح اليوم على الملأ: أسماء المرشحين الذين قدّموا شكاوى كيدية ضد منافسيهم، ووثائق تُظهر محاولات الإقصاء والتلاعب عبر معلومات مغلوطة أو افتراءات قانونية، كل ذلك بات متاحاً للرأي العام بلونٍ أزرق صار يُعرف إعلامياً بـ“لون الفضيحة”.
الهيئة القضائية، وهي الجهة المخوّلة بالبتّ في الطعون، نشرت قراراتها بالتفصيل مرفقة بأسماء مقدّمي الشكاوى والمطعون بهم، لتكشف جانباً مظلماً من الممارسات السياسية، حيث استخدم بعض المرشحين أدوات القضاء لتصفية الخصوم سياسياً لا قانونياً.
النائب السابق عبد الخالق العزاوي قال لـ”بغداد اليوم” إن “نشر القرارات بالأسماء خطوة شجاعة وضعت النقاط على الحروف، وأحرجت كثيراً من الكتل التي اعتادت استخدام الطعون كوسيلة لإقصاء المنافسين أو تشويه سمعتهم”، مؤكداً أن “الهيئة تعاملت بحياد تام، لكنها في الوقت ذاته فضحت أساليب الفساد الانتخابي المستترة خلف عناوين قانونية”.
وأضاف العزاوي أن “القرارات الزرقاء أظهرت كيف تحوّل بعض السياسيين إلى خصوم لكل من يهدد نفوذهم، مستخدمين شكاوى ملفقة لإبعاد المرشحين الأقوياء من السباق”، مبيناً أن “نشر تلك الأسماء أمام الجمهور كشف زيف الشعارات التي ترفعها بعض القوى حول النزاهة والشفافية”.
من بين القضايا التي أثارت الجدل، إعادة المرشح سجاد سالم إلى السباق الانتخابي بعد أن اعتبرت الهيئة أن تصريحاته تدخل ضمن حرية الرأي المكفولة دستورياً، في مقابل تثبيت استبعاد المرشح محمد الدايني بسبب الإخلال بشروط النزاهة وحسن السيرة. وبين القرارين، انكشف مدى استخدام “الطعن الانتخابي” كأداة ضغط سياسي تُدار في الخفاء.
تحوّل اللون الأزرق الذي يميز هذه الوثائق إلى رمزٍ جديد في المشهد السياسي، لا للنزاهة كما أُريد له، بل لفضح التلاعب والمكر السياسي. فخلال أيام قليلة من نشرها، امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بصور القرارات، وتعليقاتٍ تكشف غضب الشارع من “الطعن الكيدي” الذي يمارسه بعض المرشحين ممن يدّعون الإصلاح وهم أول من يعبث بالقانون.
خبراء القانون الدستوري أكدوا أن هذه الخطوة تمثل “صدمة إيجابية” لكنها أيضاً دليل على خلل مؤسسي مزمن، إذ لا يمكن أن تتحول العدالة الانتخابية إلى فضيحة علنية لولا أن منظومة الرقابة كانت عاجزة عن ردع التلاعب طيلة السنوات الماضية.
من جهتهم، يرى ناشطون أن المفوضية لم تنشر الوثائق حباً بالشفافية، بل استجابةً لضغطٍ شعبي متصاعد بعد تكرار شكاوى التزوير والتلاعب في القوائم. فالنشر العلني، بحسبهم، هو “اعتراف غير مباشر” بأن الفساد وصل إلى قلب المؤسسات التي يفترض أن تحمي نزاهة الانتخابات.
المفارقة أن هذه القرارات التي صُممت لتكريس العدالة، تحولت إلى مرآةٍ عاكسة لفساد السلطة. فكل اسمٍ يظهر في سجل الطعون الكيدية بات مرشحاً لفقدان الثقة الشعبية، وكل كتلةٍ حاولت استخدام القضاء كوسيلةٍ للإقصاء أصبحت أمام جمهورها عارية من المصداقية.
وبينما يحاول البعض التقليل من أهمية الخطوة، يراها مراقبون دليلاً على أن القضاء بدأ يكشف ما كانت السياسة تخفيه لسنوات. فالعراقيون الذين يقرأون اليوم أسماء المتورطين في “الطعون الكيدية” سيحملون تلك الذاكرة معهم إلى صناديق الاقتراع في 11 تشرين الثاني المقبل، لتتحول الشفافية من شعارٍ إلى سلاحٍ شعبي ضد الفساد الانتخابي.
القرارات الزرقاء لم تعد مجرد ملفات قانونية؛ إنها وثائق إدانة لنظامٍ انتخابي سمح بالتلاعب، وأحزابٍ احترفت استغلال القضاء لحماية مصالحها. وهكذا، من وثيقة سرية إلى سجل علني، انكشف المستور في دولةٍ يتحدث مسؤولوها عن الإصلاح بينما تغرق مؤسساتها في فسادٍ مفضوحٍ باللون الأزرق.
![]()
