بغداد – بعد أكثر من قرن من الغياب تحت مياه نهر دجلة، أزاحت الطبيعة الستار عن سفينة حربية عثمانية ضخمة كانت قد غرقت خلال المعارك مع القوات البريطانية في بدايات القرن الماضي، في مشهدٍ لافتٍ أثار فضول الباحثين ودهشة الأهالي، لكنه في الوقت ذاته سلّط الضوء على أزمة الجفاف الخطيرة التي تضرب العراق بصمت وسط عجز حكومي واضح.
الفيديو الذي نشره المغامر العراقي علي حمد كشف السفينة الغارقة قرب قضاء الشرقاط شمال صلاح الدين، وهي بقايا أسطول عثماني دمّر أثناء الحرب العالمية الأولى. المشهد التاريخي تحوّل إلى صرخة مائية، فظهور السفينة لم يكن بفعل بعثة أثرية أو مشروع وطني، بل بسبب انخفاض غير مسبوق في مناسيب نهر دجلة نتيجة الإهمال وسوء إدارة الموارد المائية.
يقول المواطن إبراهيم الموسى، أحد وجهاء المنطقة، إن السفينة “قُصفت من قبل طائرات بريطانية أثناء الحرب”، مشيراً إلى أن الروايات الشعبية توارثت قصتها جيلاً بعد جيل. لكن اليوم، ومع انحسار المياه، برزت معالمها واضحة وكأنها تذكير مؤلم لما آل إليه حال النهر الذي كان يوماً رمز الحياة في العراق.
في المقابل، يرى سكان الشرقاط أن السفينة لم تعد مجرد أثر تاريخي، بل أصبحت شاهداً على فشل الحكومات المتعاقبة في حماية نهر دجلة من الجفاف، إذ إن المياه لم تنحسر لهذا الحد منذ قرون، ما سمح بظهور أجزاء من قاع النهر ومواقع غارقة كانت مغمورة بالكامل.
الخبير المائي جاسم عطية أوضح أن سبب ظهور السفينة يعود إلى “تراجع الإطلاقات المائية من تركيا وسوريا”، مؤكداً أن العراق يعيش واحدة من أخطر موجات الجفاف في تاريخه الحديث، محذراً من أن هذا الانحسار يهدد الزراعة، والثروة الحيوانية، وحتى إنتاج الطاقة الكهربائية من السدود.
بدوره، حذّر الباحث عبدالله عثمان من أن السفينة المكتشفة ليست سوى دليل آخر على الإهمال المزمن للتراث العراقي، موضحاً أن المنطقة شهدت معارك عنيفة بين الجيشين العثماني والبريطاني عامي 1917 و1918، وأن ما يظهر اليوم من آثار على ضفاف دجلة يمثل جزءاً من ذاكرة الحرب التي لم تُوثّق رسمياً بسبب ضعف مؤسسات الدولة.
في حين أكد الخبير المائي حسين علي أن انكشاف السفينة ما هو إلا نتيجة مباشرة لسياسات مائية فاشلة، قائلاً إن “الإطلاقات المائية من تركيا تراجعت إلى مستويات خطيرة، فيما تقف الحكومة العراقية متفرجة بلا خطة وطنية واضحة لإدارة المياه أو حماية الإرث البيئي”.
وأشار علي إلى أن انخفاض منسوب دجلة أدى إلى ظهور جزر طينية وتعطل محطات الضخ الزراعية وتراجع إنتاج الطاقة، محذراً من أن استمرار الإهمال قد يحوّل النهر إلى مجرى موسمي خالٍ من الحياة.
من جهتهم، دعا أهالي الشرقاط الجهات الحكومية والهيئات الأثرية إلى التحرك السريع لتوثيق هذا الاكتشاف النادر، محذرين من أن استمرار انخفاض المياه قد يتسبب في تآكل بقايا السفينة التاريخية أو سرقتها في ظل غياب الرقابة.
وفي الوقت الذي يحتفي فيه المواطنون بهذا الاكتشاف الفريد، تتكشف الحقيقة المؤلمة: أن ما أخرج السفينة العثمانية إلى الضوء ليس إنجازاً علمياً، بل فشل حكومي مزمن في إدارة أحد أهم أنهار العالم.
![]()
