بغداد – في مشهد يكشف عمق الارتهان السياسي وتآكل السيادة، خرجت طهران هذه المرة بلهجة غير مسبوقة، حين أعلن رئيس هيئة الأركان الإيرانية اللواء عبد الرحيم موسوي عن وجود “مخطط أمريكي لاحتلال العراق”، وذلك خلال لقائه مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي في العاصمة الإيرانية. تحذيرٌ غريب في توقيته ومضمونه، عرّى هشاشة القرار العراقي الذي بات ساحة تصفية حسابات بين واشنطن وطهران، وسط غياب موقف رسمي حازم من بغداد.
الاجتماع الذي عُقد في طهران لم يكن بروتوكوليًا بقدر ما كان استدعاءً للعراق إلى طاولة النفوذ الإيراني. موسوي تحدث عن “تهديد للسيادة العراقية”، بينما اكتفى الأعرجي بترديد عبارات التزام غامضة حول “ضبط الحدود والتعاون الأمني”. وبين هذا وذاك، ظهر المشهد العراقي كما هو دائمًا: تابعًا للضغوط الخارجية، يتجنب المواجهة ويفقد زمام المبادرة.
الخبير في الشؤون الاستراتيجية جاسم الغرابي أكد في حديثه لـ”بغداد اليوم” أن “تصريحات موسوي تعبّر عن تصاعد حدة التوتر بين إيران والولايات المتحدة على الأرض العراقية”، مشيرًا إلى أن “التحذير الإيراني لا يخلو من رسالة ابتزاز لبغداد التي فشلت في ضبط حدود علاقاتها مع الطرفين، وسمحت بتحول أراضيها إلى ساحة تجاذب إقليمي مكشوف”.
الغرابي أوضح أن “إيران تتعامل مع العراق كعمق استراتيجي لأمنها القومي، وتعتبر أي تحرك أمريكي تهديدًا مباشرًا لمجالها الحيوي، في حين تُظهر الحكومة العراقية عجزًا تامًا عن حماية سيادتها أو فرض مواقف مستقلة”.
مصادر سياسية مطلعة كشفت أن “تحذيرات طهران تتزامن مع معلومات عن نشاط أمريكي متزايد غرب العراق، ضمن خطة إعادة تموضع عسكري”، مضيفة أن “السلطات العراقية تتجنب الخوض علنًا في تفاصيل هذه التحركات خشية إثارة غضب إيران”.
وفي الوقت الذي تتحدث فيه طهران عن “احتلال جديد”، تكتفي بغداد بالتصريحات الدبلوماسية الباردة. الأعرجي شدد بعد اللقاء على أن “العراق لن يسمح باستخدام أراضيه لتهديد أي دولة”، لكن الواقع على الأرض يشي بعكس ذلك: أراضٍ مكشوفة، وقرارات سيادية تُصاغ في عواصم خارجية، وسلطة سياسية غارقة في التناقضات بين واشنطن وطهران.
التحذير الإيراني، بحسب مراقبين، لم يكن سوى إنذار لبغداد بضرورة الانحياز الكامل لطهران، أو مواجهة ضغوط داخلية وخارجية أكبر. فالحكومة العراقية التي ترفع شعار “الحياد الإيجابي” تبدو في الحقيقة عاجزة عن الحسم، تسير بخطى مرتبكة في حقل ألغام سياسي واقتصادي يهدد بجرّ البلاد إلى أزمة جديدة.
أما واشنطن، فتواصل تعزيز وجودها العسكري والاستخباري بحجة “إعادة الانتشار”، بينما تغض السلطات العراقية الطرف عن كل ذلك، مكتفية بالتصريحات المهدئة. والنتيجة: عراق بلا موقف، تحكمه التفاهمات الخارجية أكثر مما تحكمه إرادته الوطنية.
التحذير الإيراني الأخير ليس سوى انعكاس لحالة دولة فقدت أدوات السيادة، وسلطة تمضي خلف مصالح الخارج على حساب أمن الداخل. فكلما احتدمت المواجهة بين واشنطن وطهران، يصبح العراق الضحية الدائمة، وسلطته مجرد وسيط عاجز بين قوتين تتنازعان على أرضه وثرواته.
في النهاية، يبقى السؤال الأخطر: من الذي يحكم العراق فعلاً؟ سلطة وطنية أم منظومة مصالح تتبدل ولاءاتها تبعًا لتوجيهات العواصم الأجنبية؟ الإجابة، كما يقول الشارع العراقي اليوم، واضحة أكثر من أي وقت مضى: القرار لم يعد في بغداد.
![]()
