بغداد – في مشهد انتخابي يكشف عمق الفساد وتغوّل المال السياسي، تسجل انتخابات تشرين 2025 صعود طبقة من “تجار النفوذ” الذين وُلدوا من رحم المكاتب الاقتصادية للأحزاب، لا من السوق الحر ولا من روح المنافسة النزيهة. هؤلاء ليسوا رجال أعمال بالمعنى الحقيقي، بل صنيعة منظومة الفساد التي التهمت مؤسسات الدولة، وجعلت المال العام وقوداً للسباق نحو السلطة.
الكاتب أحمد الشيخ ماجد وصف الظاهرة بأنها “أوضح نسخة من اقتصاد النفوذ”، مؤكداً أن هؤلاء “تكوّنوا من شبكات الفساد داخل مؤسسات الدولة، وراكموا ثرواتهم عبر العقود الحكومية والصفقات المشبوهة التي تُدار خلف الأبواب المغلقة”.
منذ عام 2010، تمددت الأحزاب في جسد الدولة عبر مكاتب اقتصادية تحولت إلى خزائن سرية، تُدار منها المناقصات والعقود، وتُوزع فيها الحصص بحسب الولاءات السياسية. ومع مرور الوقت، تحوّل بعض المتعاملين مع تلك المكاتب إلى ممولين أساسيين للحملات الانتخابية، بعد أن جمعوا المليارات من المال العام، ليعيدوا ضخها في العملية السياسية نفسها.
ويؤكد أحد الاقتصاديين في بغداد أن “الأموال المنهوبة من الموازنة العامة طوال السنوات الماضية عادت اليوم إلى الساحة الانتخابية بواجهة جديدة”، في إشارة إلى ما وصفه بـ”تدوير المال العام” لخدمة الطبقة السياسية الحاكمة.
المال أصبح هو الحَكَم الفعلي في الانتخابات، فالقوائم تُموّل من رجال أعمال مرتبطين بعقود حكومية، والتحالفات تُبنى على من يدفع أكثر لا من يقدّم برنامجاً أو رؤية. أحد القانونيين يعلق بمرارة: “القرار لم يعد في يد المؤسسات، بل في يد من يملك المال”.
رغم وجود قوانين لتنظيم تمويل الحملات، إلا أن المفوضية عاجزة عن تتبع حركة الأموال، والرقابة المالية غائبة تماماً. تقديرات غير رسمية تشير إلى أن حجم الإنفاق الانتخابي في موسم 2025 تجاوز 4 مليارات دولار، أغلبها بلا مصدر واضح، في ظل غياب الشفافية وضعف منظومة مكافحة غسل الأموال.
الخبراء يحذرون من أن البرلمان القادم سيكون برلمان المال لا برلمان الشعب، إذ إن أغلب المرشحين يمتلكون تمويلاً ذاتياً ضخماً أو علاقات مالية عميقة مع السلطة، ما يجعل “الإنفاق” معيار القوة الوحيد داخل مجلس النواب.
المعركة الانتخابية تُحسم قبل يوم الاقتراع عبر شراء الولاءات وتمويل الحملات المحلية، فيما تتراجع الكفاءات والكوادر لصالح “رجال المال الحزبي” الذين يملكون مفاتيح النفوذ والصفقات المستقبلية.
ويرى مراقبون أن استمرار هذا النمط يعني نهاية السياسة بوصفها عملاً وطنياً، وتحولها إلى “مشروع تجاري ضخم” يتقاسم فيه الفاسدون الأرباح والمناصب. الثروة التي نُهبت من خزينة الدولة تعود اليوم بأسماء جديدة لتصنع برلماناً من رجال الصفقات لا من ممثلي الشعب، في ظل حكومة تلتزم الصمت أمام أخطر عملية تزاوج بين الفساد والسلطة في تاريخ العراق الحديث .
![]()
