بغداد – بين وعود الإصلاح وشبهات النفوذ السياسي، يتكشف يومًا بعد يوم الوجه الحقيقي لملف خصخصة الكهرباء في العراق، الذي تحول من مشروع إنقاذ للخدمات إلى بوابة جديدة للفساد وسوء الإدارة. فعلى مدى أكثر من عقدين، أنفقت الحكومات المتعاقبة مليارات الدولارات على قطاع الكهرباء دون أن يلمس المواطن أي تحسّن حقيقي في ساعات التجهيز، بينما توسعت جيوب الفساد وازدادت الأعباء المالية على المواطنين.
بدأت فكرة الخصخصة خلال حكومة حيدر العبادي (2014–2018) كخطة لتحسين الجباية وجذب الاستثمارات الخاصة، غير أن النتائج جاءت عكس الوعود، إذ تحوّلت المشاريع إلى جباية بلا خدمة، وارتفعت الفواتير دون تحسن فعلي في أداء الشبكات أو زيادة في ساعات التجهيز. وتؤكد تقارير رقابية أن ضعف الرقابة الحكومية وتداخل الصلاحيات بين وزارة الكهرباء والحكومات المحلية سمح بتحويل هذا الملف إلى مساحة نفوذ للمصالح السياسية والاقتصادية، بعيدًا عن الرقابة والمحاسبة.
ويقول مختصون في سياسات الطاقة إن تطبيق الخصخصة في العراق جرى بطريقة تخدم المستثمرين المقربين من السلطة أكثر مما تخدم المواطن، مؤكدين أن غياب الشفافية حول الجهات المالكة لتلك الشركات جعل من المشروع شبكة مصالح مغلقة، تتقاطع فيها رؤوس الأموال مع النفوذ الحزبي.
وفي محافظة ديالى، تفجرت الأزمة مجددًا بعد موجة احتجاجات غاضبة ضد الشركة المستثمرة في مدينة بعقوبة، بسبب الارتفاع المبالغ فيه في فواتير الكهرباء. وقرر مجلس المحافظة برئاسة عمر الكروي إيقاف عمل الشركة مؤقتًا، مشيرًا إلى أنها لم تلتزم ببنود العقد التي تنص على تجهيز 20 ساعة كهرباء يوميًا وتطوير الشبكات والبنى التحتية.
وقال الكروي في تصريح لـ”بغداد اليوم” إن “القرار جاء استجابةً لمطالب الأهالي الذين لم يجنوا من الخصخصة سوى مزيد من الأعباء المالية”، مضيفًا أن المجلس كان قد رفض المشروع في وقت سابق “لكن تنفيذه تم بضغط من مجلس الوزراء، ما يثير تساؤلات حول طبيعة التوجيهات ومن يقف خلفها”.
في المقابل، تكشف تقارير برلمانية وإعلامية عن أن عددًا من الشركات العاملة في خصخصة الكهرباء مرتبطة بشخصيات سياسية نافذة، ما يعزز الشكوك حول تسييس قطاع حيوي يفترض أن يكون مستقلاً. ويرى خبراء أن هذه العلاقة المشبوهة بين السياسة والمال “تُفرغ الإصلاح من مضمونه”، وتحول الخصخصة إلى أداة لتوزيع الامتيازات على المقربين من السلطة.
ويحذر الباحثون في الإدارة العامة من أن استمرار هذا النهج سيجعل الخصخصة “غطاءً قانونيًا لنهب المال العام”، داعين إلى آلية وطنية للإفصاح عن المالك المستفيد النهائي لكل عقد استثماري، لضمان النزاهة ومنع تضارب المصالح. كما يوصون بإقرار تشريعات واضحة تفرض رقابة مالية مستقلة وتُلزم الشركات بالإفصاح عن تفاصيل العقود وساعات التجهيز ومصادر التمويل.
ويرى مراقبون أن ما حدث في ديالى ليس حادثة معزولة، بل نموذج مصغّر لفشل المنظومة الخدمية العراقية، التي تخلط بين الاستثمار والإثراء السياسي. فالمواطن يدفع الثمن مرتين: مرة حين تُهدر أمواله في مشاريع غير شفافة، ومرة أخرى حين يُطالَب بدفع فواتير لا تقابلها خدمة.
الخصخصة التي رُوّج لها بوصفها طريق الإصلاح تحولت إلى رمز جديد لفساد الدولة وتغوّل النفوذ السياسي، لتؤكد أن الأزمة في العراق ليست أزمة كهرباء فحسب، بل أزمة حكم وعدالة ومحاسبة. وما لم تُستعد هيبة الدولة الرقابية وتُفكك شبكات المصالح، ستبقى الكهرباء مملوكة لأصحاب النفوذ، والمواطن وحده في الظلام.
![]()
