بغداد – تتكرر الجريمة ذاتها في العراق، وتبقى النتيجة واحدة: القتلة أحرار، والدولة صامتة. فبعد أسابيع على اغتيال عضو مجلس محافظة بغداد والمرشح السابق صفاء المشهداني، لا تزال الحقيقة غائبة، وكأن العدالة خاضعة لصفقات النفوذ، تُدار فيها الملفات بالاتصالات لا بالقانون.
الجريمة التي وقعت في قضاء الطارمية شمال العاصمة، كشفت مرة أخرى هشاشة مؤسسات الدولة وتواطؤها في حماية “الرؤوس الكبيرة”. فكلما اقترب التحقيق من شخصيات نافذة، تتبدد الأدلة وتُعاد صياغة الرواية لتصبح “حادثاً جنائياً” أو “خلافاً شخصياً”.
مصدر حكومي مطلع أكد أن التحقيقات ما زالت تدور في دوائر مغلقة، وأن “إعلان النتائج النهائية مؤجل بسبب ارتباط بعض الموقوفين بجهات سياسية تمتلك غطاءً حكومياً”. هذه العبارة وحدها كافية لتلخيص المشهد: النفوذ أقوى من العدالة، والسلطة تحمي القاتل لا الضحية.
وزارة الداخلية أعلنت في بيان متسرّع القبض على خمسة متهمين، بينما أصدر القضاء توضيحاً وصف الجريمة بأنها “جنائية”، من دون أي ذكر للجهة التي خططت أو موّلت أو أمرت. هذا التوصيف المثير للسخرية، كما وصفه ناشطون، ليس سوى محاولة لطمس الجريمة وإغلاق الملف قبل أن تصل أصابع الاتهام إلى كبار المتورطين.
عائلة المشهداني رفضت الرواية الرسمية وأمهلت الحكومة 48 ساعة لكشف الحقائق، مؤكدة أن اغتياله “سياسي بامتياز”، فيما تصاعدت حملة غضب على مواقع التواصل تحت وسم #بروحبلدمنفديكياصفاء، تحمّل السلطات مسؤولية التستر وتتهم القضاء بالرضوخ للضغوط.
الخبير الأمني محمد علي الحكيم حذر في حديثٍ لـ”بغداد اليوم” من أن “تأخير إعلان نتائج التحقيق يثبت أن هناك تواطؤاً واضحاً”، مضيفاً أن “الجهات التي تمتلك نفوذاً داخل الأجهزة الأمنية والقضائية تمنع الوصول إلى الرؤوس المدبرة”.
مصادر ميدانية كشفت أيضاً أن مقاطع الفيديو التي بثتها بعض الجهات الأمنية حول “القبض على الجناة” قديمة وتعود لقضايا أخرى، وهو ما فاقم الشكوك في نزاهة التحقيق. أما داخل وزارة الداخلية، فهناك من يؤكد أن “أوامر عليا” أوقفت تتبع بعض الخيوط الحساسة بحجة “عدم إثارة الفتنة”، وهو ما يعني بلغة الواقع: لا أحد يُحاسَب إن كان قريباً من السلطة.
منظمات دولية وثّقت أكثر من 800 عملية اغتيال سياسي منذ عام 2003، ولم يُقدَّم الجناة الحقيقيون في أي منها تقريباً، حيث تتجاوز نسبة الإفلات من العقاب في العراق 95%. كل هذه الجرائم تُغلق بتوصيف “جنائي مجهول”، بينما يُكافأ الفاسد بالمناصب، ويُعاقب الصادق بالصمت أو الرصاص.
ويقول الخبير الاستراتيجي محمد التميمي إن “السلطة في العراق أصبحت شريكة في إنتاج الفوضى، لأنها تستفيد من بقاء ملفات الاغتيالات غامضة، لتستخدمها في تصفية الحسابات السياسية وقت الحاجة”.
اغتيال صفاء المشهداني لم يكن حادثة عابرة، بل جرس إنذار لنظامٍ فقد هيبته، وقضاءٍ صار جزءاً من اللعبة، وحكومةٍ تغطي على القتلة بدلاً من ملاحقتهم. فحين يُقتل مسؤول منتخب دون أن يُكشف قاتله، فإن السؤال لم يعد “من نفذ الجريمة؟” بل “من الذي حماه من المحاسبة؟”.
وبينما تمضي الأيام دون كشف أي تفاصيل حقيقية، يتأكد العراقيون أن العدالة في بلادهم لا تمشي على الأرض، بل تُدفن مع الضحايا، وأن من يجرؤ على كشف القتلة… سيجد نفسه في قائمة الاغتيالات القادمة.
![]()
