بغداد – تشهد الساحة السياسية العراقية واحدة من أكثر الحملات الانتخابية بذخاً في تاريخ البلاد، بعدما تحولت الدعاية الانتخابية إلى واجهة لفساد مالي منظم يلتهم المليارات، في ظل غياب أي رقابة حقيقية أو شفافية في مصادر التمويل. فبينما يحدد القانون سقف الإنفاق بـ 250 ديناراً لكل ناخب، قفز الإنفاق الفعلي إلى ما بين 3 و4 تريليونات دينار على أقل تقدير، وفقاً لتقديرات الخبير الاقتصادي منار العبيدي، وربما يتجاوز ذلك بكثير، وسط غياب البيانات الرسمية والمساءلة.
أموال بلا رقابة ولا محاسبة
المشهد المالي للحملات الانتخابية، كما يصفه العبيدي، “خارج السيطرة تماماً”. فالأموال تتدفق من مصادر مجهولة، تُصرف بلا سقف، وتُدار بعيداً عن أعين المؤسسات الرقابية. الجهات المفترض أن تراقب — كالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهيئة النزاهة، وديوان الرقابة المالية، وهيئة الإعلام والاتصالات، ومكتب مكافحة غسل الأموال — تعمل في جزر معزولة بلا قاعدة بيانات موحدة ولا تنسيق فعلي.
القوانين واضحة على الورق، إذ يُلزم القانون رقم (9) لسنة 2020 المفوضية بتدقيق موارد المرشحين المالية، فيما يُناط بمكتب مكافحة غسل الأموال متابعة التحويلات المشبوهة وفق القانون رقم (39) لسنة 2015. لكن في الميدان، لم تُنشر أي بيانات، ولم تُكشف أي تقارير عن حجم الأموال المتداولة أو الجهات التي تمول الحملات، ما يجعل العملية الانتخابية واحدة من أكثر الملفات غموضاً وفساداً في المنطقة.
المال السياسي يبتلع الدولة
تقديرات الإنفاق الانتخابي تكشف عن فجوة مرعبة بين النص القانوني والواقع. فبينما السقف القانوني هو 250 ديناراً للناخب الواحد، بلغ الإنفاق الفعلي للمرشح الواحد 1.4 مليار دينار في المتوسط، ووصل لدى بعض المرشحين إلى 5 مليارات دينار.
ومع وجود 7,926 مرشحاً، فإن إجمالي الإنفاق يصل إلى 11 تريليون دينار، أي ما يعادل 8.4 مليارات دولار، وهو رقم كفيل بتحويل العملية الانتخابية إلى اقتصاد موازٍ قائم بذاته، تتغذى عليه شبكات النفوذ السياسي والمالي.
أموال توازي ميزانيات دول
تكفي المبالغ المهدورة على الدعاية الانتخابية لبناء دولة صغيرة، إذ يمكن بها تنفيذ مشاريع تنموية ضخمة مثل:
- 110 آلاف وحدة سكنية بمتوسط كلفة 100 مليون دينار للوحدة.
- 1,860 مدرسة ابتدائية بكلفة 6 مليارات دينار للمدرسة.
- 92 مستشفى جديداً بسعة 150 سريراً، بكلفة 120 مليار دينار للمستشفى الواحد.
- 8,400 كيلومتر من الطرق الحضرية، بمتوسط 1.3 مليار دينار للكيلومتر.
هذه الأرقام تضع السلطات أمام فضيحة مالية صريحة: فالأموال التي تُهدر على الشعارات والصور والولائم الانتخابية كانت كفيلة بانتشال ملايين العراقيين من الفقر، وتغطية العجز في قطاعات الصحة والتعليم والإسكان.
من المال إلى النفوذ
يرى مختصون في الاقتصاد السياسي أن الانتخابات لم تعد تنافساً ديمقراطياً، بل ساحة لتبادل النفوذ بين شبكات السلطة والمال. فالمليارات التي تُنفق على الحملات تُستعاد لاحقاً من خلال المناصب الحكومية والعقود والمشاريع العامة، في دورة مغلقة تبدأ بشراء الأصوات وتنتهي بسرقة المال العام.
ويؤكد محللون أن ضعف الشفافية داخل البرلمان، وارتباط العديد من النواب بشبكات تمويل حزبية، جعل النظام السياسي أسيراً للمال الفاسد، وأفرغ فكرة الرقابة والمساءلة من مضمونها.
الفوضى تمتد إلى البيئة
حتى البيئة لم تسلم من آثار الفساد الانتخابي. فقد كشف مرصد العراق الأخضر عن تضرر 250 ألف شجرة في 15 محافظة بسبب تثبيت اللافتات الانتخابية عليها بالمسامير والمواد الإسمنتية، إضافة إلى تشويه الجزرات الوسطية وتدمير أنظمة الري والنافورات.
ويرى المرصد أن هذا المشهد يعكس غياب ثقافة احترام القانون، وأن الفوضى التنظيمية في الحملات هي الوجه البيئي لفوضى التمويل السياسي.
مقارنة تفضح الواقع
في دول ديمقراطية كالمملكة المتحدة وفرنسا، يُلزم القانون المرشحين بتقديم كشوف مالية دقيقة تخضع لتدقيق قضائي مستقل، ويُحاسب كل من يخالف. أما في العراق، فلا وجود لنظام إفصاح مالي فعّال، ما جعله من أعلى الدول إنفاقاً وأضعفها رقابة، بحسب تقارير اقتصادية دولية.
نظام بلا ثقة
الإنفاق الانتخابي المفرط في العراق لم يعد مجرد خلل إداري، بل مؤشر على انهيار منظومة القيم السياسية. فبعد عقدين من “التعددية الشكلية”، أصبحت الانتخابات وسيلة لتدوير المال الفاسد تحت غطاء الشرعية الديمقراطية. القوانين موجودة، لكن الإرادة السياسية لتطبيقها غائبة، والمؤسسات الرقابية عاجزة أمام نفوذ الكتل والأحزاب.
نهاية مفتوحة على الفساد
بين الشعارات التي تملأ الجدران واليافطات التي تغطي المدن، تختفي أرقام مرعبة عن حجم الهدر والسرقة المقننة. ملايين الدولارات تُهدر باسم الديمقراطية، بينما يعيش المواطن تحت سقف مثقوب ويدخل أطفاله مدارس بلا مقاعد ومستشفيات بلا دواء.
وهكذا، تحوّل الإنفاق الانتخابي إلى مرآة صادقة لفساد السلطات، حيث تُشترى الولاءات بالمال، وتُباع التنمية في سوق الشعارات.
![]()
