بغداد – تحوّل المقعد النيابي في العراق من رمزٍ للتمثيل الشعبي إلى مدخلٍ للنفوذ المالي والسياسي، بعدما أصبحت قبة البرلمان مأوى للامتيازات بدلاً من كونها منبراً للمساءلة والتشريع. فالمؤسسة التي كان يُفترض أن تراقب أداء السلطة التنفيذية تحولت إلى سلطةٍ موازية تُحصّن نفسها من المحاسبة، وتعيد إنتاج شبكات المصالح والفساد بدلاً من مواجهتها.
حصانة تبرّر الفساد
البرلماني اليوم لم يعد مجرد مشرّع، بل جزء من منظومة نفوذٍ مغلقة تتقاطع فيها المصالح المالية والسياسية. فالحصانة التي منحت لحماية النائب من التهديد، تحولت إلى درعٍ قانوني يقيه من المحاسبة، ويمنح الفاسدين مساحة للتحرك بأمان داخل دائرة السلطة. وبهذه الحصانة، تضاعفت الثروات، وانهارت قيم الرقابة والمساءلة.
غياب البرامج وتكرار الوجوه
يقول الباحث لقمان حسين إن “الوجوه ذاتها تُعاد في كل انتخابات، بخطابات متكررة لا تحمل برامج ولا رؤى عملية”. ويضيف أن “ضعف الوعي البرامجي للحملات الانتخابية يعكس هشاشة التجربة البرلمانية العراقية التي فقدت مصداقيتها منذ الدورات الأولى”.
البرلمان، وفق متخصصين في النظم السياسية، لم يعد نتاج إرادةٍ شعبية، بل صناعة حزبية مغلقة تقوم على الولاء والتمويل الانتخابي لا الكفاءة. فالقوائم تُحسم في غرف مظلمة، والأسماء تُختار بصفقات مالية أو بترتيبات الزعامة، لتتحول العملية الانتخابية إلى إعادة إنتاجٍ لمراكز النفوذ ذاتها التي تمسك بخيوط الدولة.
برلمان للنفوذ لا للتشريع
تشير الدراسات إلى أن أكثر من نصف أعضاء مجلس النواب يفتقرون إلى خلفيات سياسية أو قانونية، وبعضهم يدخل القبة للمرة الأولى دون أي خبرة مؤسسية. هذا الخليط غير المنسجم جعل البرلمان أقرب إلى تجمّع اجتماعي محصّن من كونه مؤسسة تشريعية فاعلة.
ومع كل دورة جديدة، تتراجع وظيفة البرلمان كسلطة رقابة وتشريع أمام سطوة الكتل، حيث يُصاغ القرار في مكاتب الأحزاب لا في القاعة العامة، ويُنفّذ النائب ما يُملى عليه، لا ما يراه صالحاً للناس.
مقاعد تُباع وتُشترى
المحللون يرون أن الأحزاب لم تعد تعمل كمؤسسات سياسية، بل كقنوات استثمار. فالمواقع الانتخابية أصبحت “حصصاً تفاوضية” تُباع لمن يدفع أكثر أو لمن يضمن الولاء المالي والسياسي. بهذا، تحوّلت الانتخابات إلى سوق مغلق للصفقات، وخرج التمثيل الشعبي من المعادلة تماماً.
تضخم الثروات تحت غطاء المناصب
تقارير ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة تكشف عن تضخمٍ واضح في الذمم المالية لعدد من النواب خلال دورةٍ واحدة فقط، من دون تبريرات قانونية أو تطبيق فعلي لقانون “من أين لك هذا”. ومع غياب الشفافية، تحوّل المقعد النيابي إلى منصة للثراء السريع، تُستغل عبر العقود الحكومية والمناقصات والتعيينات.
من التشريع إلى الوساطة
على المستوى الاجتماعي، يربط خبراء السلوك السياسي هذه الظاهرة بثقافة “الخدمة الفردية”، حيث يُقاس أداء النائب بعدد التعيينات والمعاملات التي ينجزها لناخبيه، لا بعدد القوانين التي يقترحها أو الإصلاحات التي يحققها. وبهذا، تنقلب القبة التشريعية إلى مكتب خدماتٍ محلي يخدم المصالح الضيقة، لا المصلحة الوطنية.
تدوير الوجوه.. والفساد
النظام الانتخابي الحالي، وفق باحثين في الحوكمة، يُعيد تدوير الوجوه نفسها حتى وإن ارتبطت بملفات فساد أو غياب. فطبيعة النظام المغلق وغياب آليات المحاسبة الشعبية تسمح بعودة النواب أنفسهم إلى مقاعدهم كل دورة، وكأن العقاب الشعبي محذوف من المعادلة السياسية.
أزمة بنيوية لا شخصية
الأزمة لم تعد في الأفراد فقط، بل في البنية السياسية التي تُنتج هذا الواقع. فحين يصبح النائب تابعاً لزعيم الكتلة، وتُدار قرارات البرلمان من خارج جدرانه، تفقد الديمقراطية معناها، ويتحوّل صوت المواطن إلى مجرد صدى في قاعةٍ لا تُسمع فيها إلا أوامر أصحاب النفوذ.
برلمان الحصانة لا البرلمان الشعبي
بهذا الشكل، تحوّل البرلمان العراقي من مؤسسةٍ تمثيلية إلى مظلةٍ سياسية تحمي الفساد وتكرّس غياب المحاسبة. فالمقعد الذي فُرض أن يكون أداة لخدمة الشعب، صار باباً للثراء والنفوذ، والحصانة التي خُصصت لحماية المشرّع أصبحت الحاجز الذي يمنع محاكمته.
وفي ظل هذا الواقع، يبقى السؤال مفتوحاً: من يراقب من؟ البرلمان الذي يملك أدوات الرقابة، أم الفساد الذي استولى على أدوات البرلمان؟
![]()
