بغداد – تتسع دائرة التحذيرات الاقتصادية في العراق مع استمرار غياب موازنة عام 2025، وسط شلل حكومي واضح واتهامات بالتقصير والفساد المالي، بعدما فشلت السلطات في إرسال جداول الموازنة إلى مجلس النواب رغم مرور أكثر من عشرة أشهر على العام المالي، ما تسبب بجمود اقتصادي وركود يهدد قطاعات حيوية في البلاد. ويرى مختصون في الاقتصاد أن غياب الموازنة ليس مجرد تأخير فني، بل نتيجة خلل هيكلي في إدارة الدولة المالية وتلاعب واضح بالأموال العامة، في ظل غياب الشفافية والمساءلة واستمرار الصراع بين أجنحة السلطة التنفيذية والتشريعية على حساب مصالح المواطنين.
عضو اللجنة الاقتصادية النيابية كاظم الشمري أكد أن الحكومة تتحمل المسؤولية الكاملة عن تعطيل الموازنة وعدم إرسال جداولها حتى الآن، مشيراً إلى أن هذا التأخير انعكس بشكل مباشر على المشاريع الاستثمارية والخدمات الأساسية مثل الرعاية الاجتماعية والبطاقة التموينية التي تمس حياة المواطنين يومياً. وأضاف أن البرلمان طالب الحكومة مراراً بتقديم الموازنة، لكن رئيس الوزراء ووزرته تجاهلوا هذه المطالب في خرق واضح للالتزامات الدستورية، مشدداً على أن ما يحدث ليس سوى فوضى مالية تكشف غياب التخطيط وضعف الإدارة.
الباحث الاقتصادي أحمد عيد حذر من أن العراق يقترب من مرحلة الشلل المالي، موضحاً أن الموازنة هي المحرك الأساسي للاقتصاد الوطني، وبدونها تتوقف المشاريع وتتراجع السيولة النقدية ويضعف النشاط التجاري. وقال إن غياب الرؤية الاقتصادية لدى الحكومة خلق حالة من الجمود في السوق، وأربك المستثمرين المحليين والأجانب، في وقت يشهد فيه البلد تراجعاً في القدرة الشرائية وارتفاعاً في تكاليف التشغيل والاستيراد. وأشار إلى أن استمرار الخلافات السياسية حول بنود الموازنة ينذر بدخول العراق في مرحلة ركود مالي خانق، مطالباً الحكومة بالكشف عن أسباب التأخير الحقيقية التي لا تبدو فنية بقدر ما هي سياسية ومرتبطة بتوزيع النفوذ والمصالح.
أما الخبير الاقتصادي مصطفى الفرج فأكد أن تأخر الموازنة يمثل مخالفة صريحة لقانون الموازنة الثلاثية الذي أُقر عام 2023 والذي نصّ على إقرار الموازنات السنوية في بداية كل عام، مشيراً إلى أن الحكومة لم تلتزم بتلك التوجيهات القانونية. وأوضح أن الموازنة السابقة بُنيت على أساس 70 دولاراً لبرميل النفط بينما انخفض السعر إلى أقل من 65 دولاراً حالياً، ما يستدعي مراجعة عاجلة للإنفاق العام، إلا أن الحكومة تجاهلت ذلك كلياً، مما يعكس تقصيراً متعمداً في ضبط السياسة المالية. وأضاف أن الاقتصاد العراقي لا يزال يعتمد بنسبة تتجاوز 90% على صادرات النفط، ورغم هذا الاعتماد الخطير لم تقدم الحكومة أي بدائل واقعية أو برامج لتقليل المخاطر، بل اكتفت بتبريرات شكلية لتمرير الوقت، مؤكداً أن تأخر الموازنة أثر على شريحة واسعة من الموظفين والمقاولين والمستثمرين الذين لم يتسلموا مستحقاتهم منذ أشهر. ويرى الفرج أن السبب الجوهري وراء الأزمة هو الصراع المتواصل بين الحكومة ومجلس النواب، حيث يسعى كل طرف لاستخدام الموازنة كأداة ضغط سياسي، مضيفاً أن الفساد السياسي والصفقات السرية داخل أروقة السلطة جعلت الموازنة رهينة بيد المتنفذين الذين يتعاملون مع المال العام كغنيمة، محذراً من أن استمرار هذا النهج سيقود البلاد إلى أزمة مالية خانقة قد تمتد إلى العام المقبل، مع تفاقم الديون المحلية وتراجع الاحتياطي النقدي وتوقف المشاريع الخدمية الكبرى.
وفي المقابل، حاول الخبير الاقتصادي كريم الحلو التقليل من خطورة غياب الموازنة، قائلاً إن الرواتب تُصرف شهرياً وتمثل ثلثي الموازنة العامة ما يضمن استمرار الدورة النقدية في السوق، لكنه أقر في الوقت ذاته بأن الاقتصاد العراقي يفتقر إلى سياسة دعم واضحة للمنتج المحلي الذي يواجه منافسة غير عادلة من السلع المستوردة. ورغم حديث الحلو عن توفر البضائع واستمرار الحوالات الخارجية، إلا أن مراقبين اعتبروا تصريحاته محاولة لتبرير فشل الحكومة في إدارة الملف المالي، خاصة أن المشاريع التي أُعلن عنها في بعض المحافظات لم تتجاوز نسب إنجازها 20%، بحسب تقارير رقابية.
ويجمع المراقبون على أن غياب الموازنة كشف عمق الأزمة في بنية الدولة العراقية، حيث يتداخل الفساد الإداري مع الانقسام السياسي، لتصبح الموازنة أداة للمساومة وتقاسم النفوذ بدل أن تكون خطة تنمية وطنية. ومع غياب الشفافية وتزايد الشبهات حول صرف الأموال خارج الأطر القانونية، يظل المواطن العراقي هو المتضرر الأول من هذا العبث المالي، في وقت تعجز فيه الحكومة عن تقديم تبرير مقنع لتأخرها أو خطة واضحة لإنقاذ البلاد من شبح الانهيار الاقتصادي القادم .
![]()
