بغداد – يدخل العراق مجدداً مرحلة سياسية مشوبة بالفساد والتفاهمات الخفية، حيث تتراجع إرادة الشعب أمام تسويات خارجية تُدار خلف الأبواب المغلقة. فبينما يتهيأ البلد لانتخابات تشرين الثاني، يبدو أن مصير المناصب السيادية قد حُسم مسبقاً بين واشنطن وطهران، في مشهد يعكس تواطؤاً عميقاً داخل الطبقة الحاكمة التي استبدلت صناديق الاقتراع بغرف الصفقات.
تؤكد مصادر سياسية أن ما بين سبعة إلى ثمانية مناصب سيادية – بينها الرئاسات الثلاث وهيئات رقابية حساسة – أصبحت محمية بما يسمى “الخط الأحمر”، أي أنها لا تُمنح إلا بموافقة أمريكية مسبقة. هذه الصيغة التي تُقدَّم تحت شعار “تحييد الدولة عن الفوضى” ليست سوى إعادة إنتاج لوصاية جديدة، تجعل من العراق دولة تُدار بالهاتف والمال لا بالدستور والإرادة الوطنية.
وفي الوقت الذي تستخدم فيه واشنطن أدواتها المالية للسيطرة على القرار العراقي، جاءت زيارة قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني لتؤكد أن طهران هي الأخرى لا تزال تتعامل مع العراق كساحة نفوذ لا كشريك. فالرجل عقد سلسلة لقاءات مغلقة مع قادة الفصائل والأحزاب في محاولة لاحتواء النفوذ الأمريكي، ما يعكس صراعاً دولياً تُدفع فاتورته من استقرار البلاد ومستقبلها السياسي.
وتزامناً مع هذه الزيارة، وصل المبعوث الأمريكي الجديد مارك سافايا، رجل الأعمال المثير للجدل والمُلقب بـ”ملك القنّب”، بمهمة تتجاوز الدبلوماسية إلى التدخل المباشر في ملفات التمويل والانتخابات. وبحسب التسريبات، فإن مهمته تشمل مراقبة المال السياسي وضبط مسار العملية الانتخابية، في خطوة تكشف أن واشنطن لم تعد تخفي نيتها إدارة الدولة عبر بوابة الاقتصاد لا السلاح.
لكن الأخطر هو ما كشفته مصادر عن مبادرة أمريكية وُصفت بأنها “تسوية للفاسدين”، تسمح بإعادة جزء من الأموال المنهوبة مقابل إعفاء المتورطين من الملاحقة القانونية. ووفقاً للمصادر، فإن المتورطين يُسمح لهم بإعادة 75% من الأموال المنهوبة والاحتفاظ بالباقي مقابل الخروج الهادئ من المشهد السياسي. هذه “الصفقة القذرة”، كما وصفها خبراء، تمثل غطاءً لإعادة تدوير الفاسدين داخل النظام بدلاً من محاسبتهم، ما يؤكد أن الفساد أصبح جزءاً من بنية السلطة وليس مجرد خلل إداري.
الخبير الاستراتيجي محمد التميمي يؤكد أن “واشنطن تتعامل مع الفساد كأداة نفوذ سياسي لا كجريمة”، مضيفاً أن “الأسماء المتهمة بنهب المال العام هي ذاتها التي تتصدر مشهد التسويات اليوم”. بينما يرى الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي أن “الفساد تحوّل إلى منظومة متكاملة تُنتج السياسة وتتحكم بالاقتصاد”، لافتاً إلى أن لجان مكافحة الفساد باتت تُدار من قبل المتورطين أنفسهم.
وفي قراءة واقعية، يظهر أن واشنطن تمضي نحو تقليص وجودها العسكري مقابل تعزيز نفوذها المالي داخل مؤسسات الدولة، في حين تحاول طهران ترميم حضورها عبر أدوات الولاء العقائدي والسياسي. وبين الطرفين، تُترك السيادة العراقية رهينة لتفاهمات وصفقات تُدار من الخارج، بينما تلتزم السلطات الصمت حفاظاً على امتيازاتها ومناصبها.
ختاماً، لا يُمكن وصف ما يجري إلا بأنه تسوية كبرى على حساب العراق، تُدار فيها المناصب بالمال، وتُغلق ملفات الفساد بالصفقات، وتُصاغ خريطة السلطة على مقاس الخارج. أما الداخل، فغارق في دوامة العجز والتبعية، تحكمه طبقة سياسية فقدت شرعيتها وباتت تمارس الفساد بغطاء دولي وتواطؤ رسمي.
![]()
