بغداد – تشهد بغداد منذ أكثر من أسبوع فوضى رقمية غير مسبوقة، وسط تشويش متعمّد على نظام تحديد المواقع (GPS)، ما كشف عن مواجهة خفية بين القوات الأمريكية والفصائل المسلحة، في ظلّ صمت حكومي مريب يعكس عمق الفساد وضعف القرار السيادي.
مصادر أمنية أكدت أن عملية التشويش تمت على مرحلتين: الأولى تعطيل إشارات الملاحة في محاور محددة من العاصمة، والثانية بث إشارات مزيفة حوّلت المواقع الجغرافية إلى إحداثيات خاطئة، ما أربك عمل شركات النقل والتوصيل والملاحة الجوية، وتسبب بخسائر اقتصادية فادحة.
ووفقاً للمصادر، فإن بعض أجهزة البث نُصبت على مبانٍ شبه حكومية وبالتنسيق مع أطراف داخل وزارة الاتصالات، ما يعني أن العملية تمت بدعم رسمي، ضمن صراع نفوذ إلكتروني تتقاطع فيه مصالح واشنطن والفصائل المسلحة.
في المقابل، كشفت مصادر أخرى أن التشويش يجري بتفاهم مع القوات الأمريكية “لحماية مواقع دبلوماسية”، ما يطرح تساؤلات خطيرة حول مدى استقلال القرار الأمني العراقي، خاصة مع استمرار العملية لأكثر من أسبوع دون أي بيان أو موقف رسمي من الحكومة.
الخبير الأمني سيف رعد أكد أن “ما يجري ليس مجرد تشويش فني بل إجراء ميداني له أبعاد سياسية، يتزامن مع تصعيد أمريكي وزيارات رفيعة إلى بغداد”، مشيراً إلى أن المنطقة الخضراء وجنوب العاصمة باتتا الأكثر تضرراً من هذا “العمى الرقمي”.
من جانبه، حذّر الخبير الاقتصادي أحمد التميمي من أن “استمرار التشويش لم يعد قضية أمنية فقط، بل تهديد مباشر للاقتصاد الوطني”، مبيناً أن “شركات النفط والنقل والتوصيل تكبّدت خسائر كبيرة، وثقة المستثمرين بالبيئة العراقية تتراجع يوماً بعد يوم بسبب غياب الاستقرار التقني”.
وأوضح التميمي أن “ما يحدث يعبّر عن تداخل مصالح الفصائل مع مؤسسات الدولة، واستغلال البنية التحتية الرسمية لخدمة الصراعات السياسية”، محذّراً من أن استمرار هذه الفوضى سيقوّض الثقة بالاقتصاد الوطني ويهدد التجارة الإلكترونية.
خبراء الأمن السيبراني أوضحوا أن التشويش يجمع بين أسلوبَي “الجامينغ” و“السبوفينغ”، وهما تقنيات تُستخدم في الحروب العسكرية، لكن حين تُطبّق داخل المدن، فإنها تتحول إلى أداة لمعاقبة المدنيين وتعطيل الحياة العامة.
في الوقت نفسه، تضطر الملاحة الجوية للاعتماد على الرادار بدل الأقمار الصناعية، وتُسجّل شركات النقل خسائر يومية، بينما الحكومة تلوذ بالصمت وكأن السماء ليست جزءاً من سيادتها.
ويرى مراقبون أن ما يجري في بغداد ليس مجرد خلل تقني، بل انعكاس لفساد بنيوي في مؤسسات الدولة الأمنية، حيث تتقاسم السلطة أطرافٌ متعددة، ولا أحد يعرف من يتحكم فعلاً بالسماء العراقية.
ففي دولة يفترض أن تمتلك قرارها السيادي، باتت إشارات الأقمار الصناعية تُدار من غرفٍ مظلمة بين الفصائل والجهات الأجنبية، بينما الشعب يدفع الثمن اقتصادياً وأمنياً.
وفي النهاية، لا يُعطّل التشويش خرائط الملاحة فقط، بل يكشف ضياع البوصلة في إدارة الدولة نفسها، حيث لا أحد يعرف من يملك القرار، ولا من يحاسب من.
![]()
