بغداد – في مشهدٍ يعكس انهيار أدوات الدولة الاقتصادية، يواصل الذهب ابتلاع الدينار العراقي وسط صمت حكومي وتواطؤ مؤسساتي مكشوف، بينما تتحوّل الأسواق إلى ساحة مفتوحة للمضاربين وشبكات المال غير المشروع التي وجدت في غياب الرقابة الرسمية فرصةً لتبييض أموالها تحت لافتة “الاستثمار الشرعي”.
الارتفاع الجنوني في أسعار الذهب لم يعد مجرد انعكاسٍ لتقلبات الأسواق العالمية، بل صار مرآة لفساد السلطة المالية وعجز الحكومة عن حماية قيمة العملة الوطنية أو ضبط حركة رأس المال. فبحسب الخبير الاقتصادي ناصر الكناني، فإن الحكومة فقدت أي أداة تدخل في سوق الذهب، بعدما أصبح خاضعًا بالكامل لأسعار بورصات لندن ونيويورك، دون وجود سياسة نقدية أو إنتاج محلي يمكنه تخفيف حدة الاضطرابات.
ويشير الكناني إلى أن غياب الإرادة الاقتصادية لدى الحكومة جعل البلاد رهينة لتقلبات خارجية، حيث ترتفع الأسعار عالميًا فترتفع فورًا في بغداد والنجف والبصرة، بينما تكتفي المؤسسات الرسمية بالمشاهدة. ويؤكد خبراء أن هذا العجز يكشف انهيار العلاقة بين السياسة النقدية والاقتصاد الحقيقي، ويفضح فشل البنك المركزي في حماية السوق من المضاربة وتهريب العملة.
ومع انعدام الثقة بالدينار وتآكل قيمته، يتجه المواطنون إلى الذهب كملاذ آمن، لكن ذلك فتح الباب أمام اقتصاد موازٍ يدار خارج سيطرة الدولة. فبحسب مراقبين، تحوّل الذهب إلى “عملة ظل” تُستخدم لتبييض الأموال ونقل الثروات بعيدًا عن أعين الجهات الرقابية، بينما تستمر الحكومة في إطلاق الوعود دون إجراءات حقيقية.
الخبير في مكافحة الفساد ياسين الطائي وصف ما يجري بأنه اقتصاد فساد منظم، حيث تستغل جهات متنفذة سوق الذهب لإعادة تدوير الأموال المشبوهة تحت غطاء التجارة والاستثمار. ويضيف أن “تبييض الأموال لم يعد يتم عبر المصارف فقط، بل عبر واجهات اجتماعية وخيرية تموّلها نفس الجهات التي تنهب المال العام”، مبينًا أن هذا النمط من الفساد يسعى إلى “تبييض السمعة” وبناء حصانة اجتماعية تمنع المساءلة.
ويؤكد الطائي أن بعض هذه الكيانات تنشئ شركات وهمية وتستفيد من علاقاتها داخل دوائر نافذة لتوسيع نشاطها دون رقابة، محذرًا من أن الفساد لم يعد داخل المؤسسات الحكومية فحسب، بل تسلل إلى النسيج الاقتصادي والاجتماعي، ليحوّل العمل الخيري والاستثمار المدني إلى غطاء لغسل الأموال.
ويجمع الخبراء على أن ما يحدث في سوق الذهب يمثل نموذجًا لما يسمّى “الاقتصاد المزدوج”، حيث تعمل الدولة في العلن بقوانين رسمية، بينما يتحرك الاقتصاد الموازي بقواعد المصالح والفساد. فالذهب، وفق مراقبين، أصبح الواجهة القانونية للاقتصاد الأسود الذي يدير أموال التهريب والصفقات السياسية، فيما تقف الحكومة متفرجة لا تملك سوى تشكيل لجان شكلية لا تُفضي إلى شيء.
ويرى باحثون أن الحل لا يكون بتصريحات البنك المركزي، بل بإعادة بناء نظام رقابة حقيقي يربط تجارة الذهب بنظام تتبع مالي موحد يشرف عليه جهاز مكافحة غسل الأموال. لكن حتى هذه المقترحات تصطدم، كما يقول المراقبون، بـ”جدار المصالح العليا” الذي يحمي شبكات النفوذ المالي ويمنع أي مساس بها.
ويرى خبراء أن استمرار هذا المسار سيقود إلى انهيار الثقة بالدينار وتحول الذهب إلى عملة بديلة خارج النظام المصرفي، ما سيقيد قدرة البنك المركزي على إدارة السيولة ويعرّض العراق لعقوبات وضغوط مالية دولية. أما الحكومة، فتبدو كما وصفها أحد المحللين “خارج المعادلة تمامًا”، عاجزة عن كبح المضاربة أو مواجهة المال الأسود الذي يبتلع الاقتصاد الرسمي.
ويخلص المراقبون إلى أن أزمة الذهب لم تعد اقتصادية فحسب، بل تحوّلت إلى اختبار سياسي لمدى قدرة السلطة على مواجهة الفساد المنظم، بعدما صار الذهب في العراق مقياسًا لضعف الدولة أكثر مما هو مقياس للثروة.
![]()
