متابعات – بينما تروّج الحكومة والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات لشعارات “النزاهة” و”الشفافية”، تكشف الوقائع في الميدان عن مشهد مختلف تمامًا: انتخابات تُدار بالمال الفاسد، وإرادة تُشترى في الأزقة الفقيرة والعشوائيات، تحت أنظار السلطات التي تكتفي بالصمت.
في المحافظات العراقية، يتكرر المشهد ذاته: وجوه سياسية فاسدة تعود إلى الشوارع محمّلة بحقائب المال، تُوزَّع كالإعانات لا لنجدة المحتاجين، بل لشراء أصواتهم. المال السياسي لم يعد مجرد وسيلة دعم انتخابي، بل تحوّل إلى سلاح لإخضاع الفقراء، وإعادة إنتاج السلطة نفسها التي أفقرتهم.
تحذيرات النائب السابق أيوب الربيعي جاءت صارخة، حين قال إن “الإنفاق غير المسبوق للمال السياسي الأسود من قبل بعض القوى السياسية، خصوصًا في المناطق الفقيرة، يعكس رغبة ممنهجة لتزييف إرادة الناس وتبديل قناعاتهم”. وأضاف أن ما يجري “يهدد شرعية الانتخابات بالكامل ويحوّلها إلى صفقة تجارية”.
الخبراء السياسيون يرون أن ما يُسمّى بـ”المال السياسي الأسود” لم يعد مجرد خرقٍ قانوني، بل أصبح آلية رسمية لإدارة الانتخابات، حيث يُستخدم الفقر كسلاح، والبطالة كورقة ضغط، والمساعدات كرشوة انتخابية. وتشير تقديرات بحثية إلى إنفاق عشرات المليارات من الدنانير في أحياء محددة قبل الاقتراع، في ظل صمت المفوضية وتراخي القضاء.
القانون العراقي يجرّم شراء الأصوات أو التأثير المالي على الناخبين، لكن غياب الإرادة التنفيذية جعل النصوص القانونية حبراً على ورق. فالمفوضية، بحسب خبراء قانونيين، “تتحول بصمتها إلى شريك غير مباشر في تكريس الفساد الانتخابي”.
وتوضح قراءات سياسية أن هذه الممارسات تكرّس دائرة مغلقة من الفساد، إذ تُستخدم الأموال المسروقة من الدولة في تمويل الحملات الانتخابية، لتعود إلى أيدي الفاسدين مجددًا بعد فوزهم، في دورة لا تنتهي من النهب والسلطة.
ويؤكد الربيعي أن “هذه الإغراءات المالية تمثل مخالفة صريحة لتعليمات المفوضية، ويجب الكشف عن الجهات التي تموّلها”، لكنه يعترف ضمناً بأن غياب الردع يجعل “المال الأسود أقوى من صوت القانون”.
النتيجة، بحسب مراقبين، أن الانتخابات العراقية لم تعد ساحة تنافس سياسي بل سوقًا علنيًا للفساد، تُباع فيه الإرادة الشعبية بالدينار، وتُصاغ النتائج قبل أن تُفتح صناديق الاقتراع.
في ظل هذا الواقع، يرى مختصون أن استمرار ظاهرة المال الانتخابي يعني إلغاء مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتحويل الانتخابات إلى طقس شكلي يُعيد إنتاج الفشل ذاته كل أربع سنوات. فحين تعجز الدولة عن ضبط التمويل، وتسمح بشراء إرادة المواطن، فإنها لا تُمارس الديمقراطية بل تُشرعن الفساد.
وهكذا، في بلدٍ يُفترض أنه يسير نحو الإصلاح، تبدو “الانتخابات” مجرّد عنوان خادع لصفقة كبرى تُدار خلف الكواليس، حيث المال الأسود هو الحاكم الحقيقي، والفقر هو سلاح السلطة.
![]()
